عندما تشاهدهما من أول وهلة ستعيش معهما اللحظة الخالدة التي سوف تتكرر إلى الأبد، ستشعر بدفء العلاقة، خصوصية الموقف، المشهد الذي يضاهي عناق صديقين عزيزين، ذرات مليئة بالأشواق، محمّلة بالهواجس والحنين، نسمات قادمة من مرتفعات أرض البن، بلاد النجاشي، تمتزج في بهاء مع مثيلاتها الواصلة من الجنوب، أبعد ما يكون كلاهما عن بعضهما البعض، لكن مشيئة اللقيا كانت أقوى ، كان لابد أن تستمر الرحلة ، لأن الوصول هو الهدف، كم من الذرات قد تبخرن على إمتداد المشوار، وأخريات وقعن في جوف صفائح فتيات سُمر أرهقهن المسير، وبعض الذرات أفلتن بإعجوبة من الوقوع ضحايا لخزان في الطريق، ولكن وصلن بسلام إلى نقطة الخلود، مع بعض الأرق، لكن كل ذلك يهون من أجل البرزخ.

أرض التنوع

يتميز السودان بتمازج يندر وجوده في الكثير من البلدان، تمايزات ثقافية، إثنية، فولكلورية، حضارات قديمة، تضاريس متنوعة، تعدد في المناخات، إضافة إلى كل ذلك يتميز بموقع جغرافي فريد من نوعه، الأمر الذي أهّله ليكون ضمن عشر دول عالمية لديها ميزات تفضيلية ومواقع متنوعة في مجال السياحة، منها المسطحات المائية ، ويعتبر البحر الاحمر و نهر النيل أبرزها، الأ أن هذا التنوع وهذا التباين لم يتم إكتشافه بالطريقة التي تعكس ثراء هذا البلد العريق.

معلم سياحي (منسي)

الخرطوم مدينة مختلفة التقاسيم، لها تفاصيلها الخاصة، بصمتها المميزة، وبطبيعة الحال شقاوة وعكننة المدن العريقة، أعطاها النيل أبرز وشاح، فهي ترقد مطمئنة بين ضفتي نيلين، وعند الحديث عن مميزات الخرطوم السياحية لايمكننا تجاوز أهم معلم سياحي (منسي) في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ، بل يعتبر من المعالم العالمية القليلة، إنها منطقة مقرن النيلين بالخرطوم، حيث إقتران النيل الأزرق مع النيل الأبيض في نقطة تسمى (البرزخ)، النيل الأزرق قادم من أقصى شرق القارة الافريقية، من مرتفعات بحيرة تانا الاثيوبية، أما النيل الأبيض فهو ينبع من بحيرة فيكتوريا، ثالث البحيرات العظمي علي حدود كل من أوغندا، تنزانيا وكينيا، كليهما لديه لون مختلف، لكنهما يلتقيان بكل شغف وشوق في الخرطوم ، يمتزجا ، ليكونا نهر النيل العظيم، الذي يعتبر من أطول أنهار الكرة الأرضية.

مشهد ملهم للشعراء

لحظة إقتران النيلين ببعضهما منظر جميل وخلّاب ، ألهم العديد من الشعراء للكتابة عنه، وهذا الشاعر المصري الكبير صلاح عبد الصبور يكتب نص شعري أنيق عن ذلك الإلتقاء العظيم، إبان مؤتمر للدول العربية عام 1967م بالخرطوم ، كتب رائعته ( سمرا) في عصرية على ضفاف المقرن، عندما كان يتأمل ملتقي النيلين، فكانت هذه الأبيات التي أبدع الفنان الراحل الراحل سيد خليفة في تلحينها وأدائها بطريقته المتفردة :

هما نهران في مجرى
تبارك ذلك المجرى
فيسراه على اليمنى
ويمناه على اليسرى
وهذا الأزرق العاتي
تدفق خالــدا حرا
وذاك الأبيض الهادي
يضم الأرزق الصدرا
فما انفصلا ولا انحسرا
ولا اختلفا ولا اشتجرا
ولا هذي ولا تلك
ولا الدنيا بما فيــها
تساوي ملتقى النيلين
في الخرطوم يا سمرا

كما شكل مقرن النيلين صورة زاهية للوطن ، فهذا عبدالكريم الكابلي ينظم رائعته (زمان الناس) مملوءة بالشوق والوله من بلاد المهجر :

و قُبّال ما الصور تنشال
على خيوط الأمل و الفال
وصبح الناس يجيك مرسال
يشيلك فوق وسط عينين
يوديك مقرن النيلين
يخدر فيك عقيد ياسمين

عناق أبدي بإتجاه الشمال

يظل النيل بكل عنفوانه الجبار، وهدوءه الحكيم، شاهداً على أحداث بلاد النيل، همهمات أهله قبالته، قهقهات الاصدقاء بالقرب منه، أفراح الأسر جواره، وأمسيات المحبين على ضفافه، إنقلابات العسكر، ثورات الشعب، إنفصال جنوب البلاد وإستقلاله، كل تلك الحيوات المليئة بالتفاصيل، مدونة في ذاكرته، وبالرغم من إنشغال الناس عن أفراحه بـ (الملتقى) لصالح مشاغلهم الخاصة ، الأ انه يمنحهم السعادة، وبالرغم من تجاهلهم له، لا يزال يمنحهم الخير الوفير، ولكنه لا ينسى أن يحتفل بهدوء بعيداً عن همومهم الثقيلة، يحتفظ بلحظاته في كامل الإشتعال، يعيش مع رافديه الأزرق والأبيض متعة اللقيا ، لحظة العناق الأبدي والمتواصل إلى البحر الأبيض المتوسط شمالاً.